من أجل سعادته في العدد 614 من مجلة الوعي الإسلامي

قصتي الجديدة "من أجل سعادته" في العدد 614 من مجلة الوعي الإسلامي الكويتية ( شوال-يوليوز)
من أجل سعادته.
مضت عدة شهور و هو على هذا الحال، لا يستطيع الكلام و الوقوف أو حتى تحريك جزء من جسمه. لكنّني بقيت معه، فأنا أعتني به منذ تلك الحادثة التي أفقدته القدرة على الحركة.
تخلّى عنّا جميع إخوتي . فكل منهم مشغول بأعماله و مشاكله و همومه، لذا بقيت الوحيد مع والدي. كثيرا ما تساءلت عن سبب عدم زيارتهم لنا ، أو سبب تحمّلي للمسؤولية الكبيرة وحدي ! كثيرا ما وسوس لي الشيطان ولم أستسلم. كل إخوتي الذكور و الإناث أسّسوا أسرهم الصغيرة ، الكل تزوج و أنجب ، وأنا بقيت هكذا من أجله . ذهبت إليهم واحدًا واحدًا من قبل و لم يهتموا بالأمر. بل كانوا يعتقدون أنّني أتسوّل منهم، وأرغب في النقود ! لقد مضى الكثير من الوقت و أصبحت المسؤولية الملقاة على كاهلي تزداد و تكبر. كما بدأت أشعر بشعور غريب في الآونة الأخيرة، فأنا أخشى أنني حرمت نفسي و حرمته - هو الآخر- من أشياء كثيرة.
في كلَ يوم ، أبذل قصارى جهدي لإرضاء والدي رغم إحساسي القويّ بالأسى، لأنني لا أستطيع البقاء معه طوال الوقت بحكم عملي. فكثيرا ما أشعر بحزنه عندما أعود للمنزل، خاصة إذا كان قد بلّل ثيابه أو فراشه. لكنَ جاري أصبح يساعدني بشكل كبير مؤخرا، فهو يحس بمدى صعوبة الأمر بالتأكيد. أنا أدرك تماما أنّ أبي شخص قويّ الإيمان و راض بقضاء الله و قدره، إلّا أنَ الألم يعتصرني عندما أحس أنه يرغب بشيء ما ولا يستطيع القيام به أو حتَى قول ما يريد. لكنَه بالتأكيد يتألّم أكثر منّي…
ظلَت الحال هكذا في منزلنا، و يوما بعد يوم تزداد المعاناة و الآلام؛ إلى أن وجدت إعلانا مفاجئاً في إحدى الجرائد. تمعّنت في ذلك الإعلان و قرأته جيدا ، و قد بدا لي أنّه الحل الوحيد و المتبقي من أجل سعادته و سعادتي ، حتى لا يحس بالنقص و الحرمان الذي يعيشه معي ! كان قرارا صعبا، لكنَ اتخاذه أصبح ضرورة قصوى ، من أجل راحتي و راحته. فبدأت بجمع الحقائب استعدادا للسفر في الغد.
في اليوم الموالي سافرت أنا و أبي بواسطة القطار في اتجاه أكبر مدينة في البلاد، و حملت معي الجريدة التي اشتريتها بالأمس. فقد كُتب على صفحاتها عنوان المستشفى الكبير، وهو مقرّ عمل طبيب اكتشف عملية غريبة لعلاج العديد من الأمراض؛ رغم أنّها تتطلّب الكثير من الأموال و التضحيات.
وصلنا بعد ساعات للمستشفى المطلوب، فنقلنا أبي لغرفة خاصّة بحالات الشلل. وبعد ذلك أخذت أتكلّم مع الطبيب ثم أطلعته على كلّ ما يتعلّق بحالة والدي. كان يصغي إليّ باهتمام و تفهّم ، حتّى أخبرته برغبتي في إجراء تلك العملية الجديدة لأبي فتفاجأ قائلا: : ماذا ؟ هل تريد فعلا أن تمنح جسدك لأبيك وتمتلك جسده بعملية التبادل؟ هل تعرف ما معنى هذا ؟ ستبقى مشلولا إلى الابد !
فأجبته بحزم يملؤه الألم : أجل يا دكتور، لقد فكّرت في الموضوع جيدا ! ولهذا قرّرت أن أمنح جسدي و صحّتي لأبي ، و سأكون سعيدا جدا بالحصول على رضاه مدى الحياة. صحيح أنّني سأصبح مشلولا و في نفس حالته، لكنّ هذا الأمر لا يهمّني كثيرا. فهو يتألم عندما لا يستطيع النهوض و الذهاب للمسجد. لقد اشتاق لصلاة الفجر في جماعة و إمساك القرآن بيديه لتلاوته ، كما اشتاق لزيارة الأقارب والأصدقاء و المرضى و اليتامى . حتى إخوتي الذين تخلّوا عنه ؛ كان كثيرا ما يزورهم ليطمأن عليهم . إنّه يتألمّ جدا و أنّا أتألّم أكثر منه عندما أراه في هذه الحالة !
بدا الطبيب متأثرا جدا بما قلته ، فهو لم يتوقّع أن تكون تضحيتي بهذا القدر و أمنح صحّتي كلها لوالدي. لكنّه طلب منّي أن نأخذ الإذن من إخوتي ، فهو والدهم أيضًا و لا بدّ من إطلاعهم على القرار. شرحت له الأمر جيدا و أعطيته أرقام هواتفهم حتّى نتمكّن من إجراء العمليّة في الغد ، فيما قررت الخروج قليلا من المستشفى فقد تكون آخر مرّة أحرّك فيها يديَ و رجليَ.
أحسست بالألم عندما مشيت في الشارع ، فقد رأيت العديد من الناس في الطريق. كان البعض منهم يضحك، و البعض يشتري من المتاجر و البعض الآخر يتشاجر. لا أحد منهم يعلم قيمة تحريك الجسم و المشي و الكلام. يا للغرابة ! فقد بدأت بعض الدموع تخرج من عينيّ عندما تخيّلت أبي واقفا أمامي من جديد ، يبتسم معي و يضحك مثلهم . آه ! كم اشتقت لكلامه و دعواته معي. تمنّيت لبرهة لو أعود للماضي و أعيش معه جميع اللحظات من جديد، و حبّذا لو كانت والدتي المتوفاة معنا أيضا. سيتحقَق ما أريده ، فمعاناته ستنتهي أخيرا إن شاء الله . توقّفي أيتها الدموع عن النزول ! سيصبح أبي بصحة جيّدة و سيقوم بكل أعماله التي كان يقوم بها في السابق. أعلم تماما أنّ عدم قدرتي على الكلام و الحركة أمر صعب ، إلّا أنّني سأكون سعيدا لأنّ أبي سيكون كذلك ، و لن يتألّم بعد الآن. آسف جدا فأنا لن أستطيع الوقوف و الابتسام من جديد لذلك لن أستمرّ في عملي. أعتذر من كل قلبي فلن أتمكّن من الزواج و بناء أسرة صغيرة كما كنت أحلم. صحيح أنّني لن أكون قادرا على فعل شيء و سأصبح بدون قيمة في المجتمع... لكنّ رضا والدي عنّي يكفيني.
مضت عدَة ساعات ولم أستطع التفكير في الموضوع أكثر، فرجعت للمستشفى بعدما مسحت دموعي. لكنّ المفاجأة التي كانت هناك لم تكن متوقّعة أبدا !
لقد وجدت كل إخوتي في الغرفة ! كل منهم يبكي و يتألم و يتحسر! كانوا ينظرون إليّ بنظرات غريبة لم أدرك معناها الحقيقيَ. كان الطبيب معنا في تلك اللحظة، فخرج من الغرفة بهدوء دون النطق بأيّ كلمة. بينما بقيت أنا و إخوتي مع أبي .فقال أخي الكبير باستغراب : لم نتوقع أبدا أن تضحَي بصحتك يا صهيب من أجل والدنا ! أنا لا أعرف ماذا أقول ؟ ثم أضافت أختي الصغرى : لن نتركك تصبح مشلولا و تضحّي بحياتك لوحدك فهو والدنا جميعا ! أنا أقترح أن يمنح كل واحد منا جزءا من صحته لوالدنا حتى يعود كما كان ! تكلّم جميع إخوتي ، وفي كل مرّة يقبّل أحدهم والدي. بينما بقيت صامتا طوال الوقت ، فلا يمكن لأيّ كلمة أن تصف ما أشعر به أمامهم !
كان الموقف أكبر مما كنت أتصوّر و أحتمل، ولم أعاتب أيّ أحد منهم على تقصيرهم لأنّ وجودهم معنا كان كافيا. حتّى دموعي التي كانت ترغب بشدة في النزول، منعتها بقوَة كي أستطيع رؤية السعادة الواضحة على وجه أبي بعدما رآنا مجتمعين.



تعليقات