دعوني أطير - بقلم عبد الرحيم شراك

 دعوني أطير - من كتاب بائع الوقت

 بقلم عبد الرحيم شراك



دعوني أطير عبد الرحيم شراك من كتاب بائع الوقت


منذ صغري و أنا احب الطيران، رغم أنني لا أجيد المشي أو الجري باستثناء القفز. كما أنني لا أحب "التورتات" و الحلويات بل أكلتي المفضلة هي ذباب البحيرات و اليعاسيب الطائرة. لكن كل هذا لم يجعل من حولي يتهمونني بالجنون أو الغرابة – كما تتهمونني و أنتم تقرؤون هذه الأسطر بالتأكيد - حتى جاءت فكرة الطيران في دماغي. ذلك اليوم حينما أخبرت من حولي برغبتي الجامحة في أن أطير، دمعت عيونهم من الضحك و أمطروني بوابل من الشتائم و المسبات، كما سخروا مني و استهزأوا بقسوة حتى كادوا يبتلعون ألسنتهم.

لم يمسك أستاذي في المدرسة نفسه و قال لي: انس الفكرة يا بني، لا يجب أن تفكر في الطيران أبدا. لكنني أجبته: لماذا يجب أن أرضخ لهذا الأمر و لا أفكر في التغيير ! فرد علي الأستاذ: نحن الضفادع لم نولد كي نطير، بل فقط نقفز و نأكل الحشرات و نصدر أصوات مزعجة لا يستشعر جمالها أحد. أنت ضفدع يقفز فقط، فلا تخالف القوانين و تخرج من القوقعة أرجوك! فأجبته بكل حماس: لكن عباس بن فرناس من فصيلة البشر و هم لا يطيرون أبدا، و مع ذلك فقد جرب الطيران و لم يستسلم ! إنه قدوتي في هذه اللحظات! حينئذ صرخ الأستاذ في وجهي: فماذا كان مصيره بعد ذلك يا ترى؟ هيا تكلم ! أجبني ! ألم يمت و تحطمت عظامه إربا إربا ! هل تريد أن تفقد حياتك مثله؟

لم أستطع مناقشة أستاذي أكثر، و لا والديّ و لا أي فرد من أفراد أسرتي. حتى أصدقائي الذين طالما لعبوا معي و ساندوني في السراء و الضراء، تركوني وحيدا هذه المرة. لم يدافع عني أحد و لم يتعاطف معي أي ضفدع في البحيرة. أحسست كأنني ارتكبت إثما عظيما أو ذنبا لا يغتفر، رغم أنني لم أفكر إلا في التغيير و تجربة الجديد. إن مجتمعنا الكبير هذا ظالم جدا، فما إن تتكلم بما لم يأت به الأولون حتى تصبح من المغضوب عليهم فورا فتصاب بلعنة القولون.

مرت عدة أيام وأنا منبوذ في مجتمعي. أصبحت حديث الجميع: ضفادع و شراغيف. حتى مجتمع السحالي عرف بأمري، وكذلك البط و سلاحف النهر. لم يعد يتكلم عني و الجميع اعتبروني مجرما و تهمتي الكبيرة هي التفكير في الجديد. لكنني لم أترك هذه الفرصة تمر دون أن أقرأ الكثير عن الطيران. حينما ذهبت لمكتبه البحيرات لم أجد الكثير من الكتب العلمية، فلا أثر لها. وعلى النقيض من ذلك فكتب "ألذ المأكولات من الحشرات" و "اعرف شخصيتك من قفزتك" تحتل أرفف المكتبة. لذلك استعرت بعض الكتب من صديقي السنجاب الطائر الذي تعرفت عليه في أحد الأيام، كما طلبت منه أن يقدم لي النصح و الإرشاد حتى أحقق أمنيتي. فهو لا ينتمي لفصيلة الطيور و مع ذلك استطاع القفز عاليا حتى أحس بطعم الطيران. لكنه في مجتمع مختلف كل الاختلاف عن مجتمعي ! فكل السناجب الطائرة جربت القفز عاليا من الأشجار ونجحت فيه، لقد ساعد بعضهم البعض حتى حققوا ما رغبوا فيه دوما. أما مجتمع الضفادع فلا يعرف إلا الانتقاد. لا يمكنهم أن يساعدوك أبدا أو يدعموك بالكلام الطيب على الأقل، فالقوانين هي القوانين لا يمكن تجاوزها أو تخطيها في نظرهم، حتى لو كانت خاطئة أو مؤذية.

استمر الحال على ما هو عليه، فمرت أيام عصيبة جدا. أخذت كفايتي من المعلومات حول الطيران. بحثت في شبكة الأنترنت و قرأت كل الموسوعات التي حطت رحالها بين يدي. أيقنت جيدا أن الأمر قضية حياة أو موت، فحلمي هو ملكي لوحدي ولا يحق لأي كائن حي أن يمنعني من تحقيقه. كلما سمعت ضفدعا يقول: كيف لذلك الضفدع أن يطير و هو لا يستطيع حتى أن يقفز جيدا؟ أرد عليه: سأحاول بكل قوتي، و سأثبت لكم أن الضفادع أيضا قادرة على الطيران مهما كانت الظروف. فقد تعلمنا دائما أن الضفدع الذي يواجه الصعوبات و يسعى لتحقيق حلمه يصل دائما لمبتغاه مهما طال الزمن.

أخيرا جاء الموعد المحدد الذي جهزت له منذ مدة. أعلمت الجميع بالأمر، فقد قررت الطيران أمام الجميع. لقد تحديت الكل من قبل و أقسمت أن أحقق حلمي مهما كان الثمن غاليا.

حينما حضرت جميع الضفادع إلى حافة الجبل، كنت على جذع الشجرة القريبة منها. كتبت في لافتة كبيرة: " اليوم سأنجح في تحقيق حلمي، و أهدي هذا النصر إلى طائر الكيوي". كان الجميع مذهولا و متشوقا لما سيحدث، وشعرت لوهلة بالفخر لأنني أثرت ضجة في مجتمعي و جعلت الجميع يفكر و يخرج من القوقعة كما كنت أرغب دوما. لقد حققت أسمى هدف لي و قمت بما لم يستطع القيام به أحد. نظرت إلى الجميع و قلت لهم بصوت عال:" سأقفز الآن من الشجرة نحو حافة الجبل، و سأحقق حلمي بالطيران و تذوق الطعم الذي تذوقه كل من داعب الهواء أجنحته ! "حاول الجميع منعي قائلين: "ستفقد حياتك" لكنهم لم يستطيعوا ذلك و لم يفلحوا، لقد صممت على تحقيق هدفي حتى لو فقدت حياتي، فصرخت عليهم جميعا: دعوووني أطيبببر! صحيح أنني سأموت لكنني... سأطير!


تعليقات